فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعالبي:

{قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} دخل تحت هذه العِبَارَةِ كل مؤمن باللَّه سبحانه، وكُلُّ ما كان أتقى، فهو أَدْخَلُ في العبارة، وجاءت هذه العبارة مُشِيرَةً إلى عيسى عليه السلام في حاله، وصدْقه؛ فيحصل له بذلك في المَوْقِفِ شَرَفٌ عظيم، وإن كان اللفظ يعمه وسواه. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة، شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب، وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم.
فقوله: {لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله: {خالدين فِيهَا أَبَدًا} إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة، فإنه أينما ذكر الثواب قال: {خالدين فِيهَا أَبَدًا} وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الإيمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد، وأما قوله تعالى: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم} فهو إشارة إلى التعظيم.
هذا ظاهر قول المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى، فتحت قوله: {رّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها، وقوله: {ذلك الفوز} الجمهور على أن قوله: {ذلك} عائد إلى جملة ما تقدم من قوله: {لَهُمْ جنات تَجْرِي} إلى قوله: {وَرَضُواْ عَنْهُ} وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصًا بقوله: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما، وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهريّ، ولكن كل ميسٌر لما خلق له. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لَهُمْ جَنَّاتٌ} ابتداء وخبر.
{تَجْرِي} في موضع الصفة.
{مِن تَحْتِهَا} أي من تحت غُرَفها وأشجارها وقد تقدّم.
ثم بيّن تعالى ثوابهم، وأنه راض عنهم رضًا لا يغضب بعده أبدًا.
{وَرَضُواْ عَنْهُ} أي عن الجزاء الذي أثابهم به.
{ذلك الفوز} أي الظفر {العظيم} أي الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه وشَرُف. اهـ.

.قال أبو حيان:

{لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} هذا كأنه جواب سائل ما لهم جزاء على الصدق؟ فقيل: لهم جنات.
{خالدين فيها أبدًا} إشارة إلى تأييد الديمومية في الجنة.
{رضي الله عنهم ورضوا عنه} قيل: بقبول حسناتهم {ورضوا عنه} بما آتاهم من الكرامة.
وقيل: بطاعتهم ورضوا عنه في الآخرة بثوابه.
وقال الترمذي: بصدقهم {ورضوا عنه} بوفاء حقهم.
وقيل: في الدنيا ورضوا عنه في الآخرة.
وقال أبو عبد الله الرازي: في قوله: {رضي الله عنهم} هو إشارة إلى التعظيم هذا على ظاهر قول المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى فتحت قوله: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها؛ انتهى.
وهو كلام عجيب شبيه بكلام أهل الفلسفة والتصوّف.
{ذلك الفوز العظيم} ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأييد وإلى رضوان الله عنهم، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يطلع الله على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وكيف لا نرضى وقد بعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك، فيقول الله تعالى: ولكم عندي أفضل من ذلك فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول الله عز وجل: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبدًا». اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا} استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: لهم نعيمٌ دائم وثوابٌ خالد، وقوله تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ آخرُ لبيان أنه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات ما لا قدْرَ لها عنده، وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَرَضُواْ عَنْهُ} إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهمم {وذلك} إشارةٌ إلى نيل رضوانه تعالى، وقيل: إلى نيل الكل {الفوز العظيم} لما أن عِظَمَ شأنِ الفوز تابعٌ لعِظَم شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز. وقد عرفت ألا مطلبَ وراء ذلك أصلًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا} تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: لهم نعيم دائم وثواب خالد، وقوله سبحانه: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عز وجل الذي لا غاية وراءه كما ينبئ عن ذلك قوله سبحانه: {وَرَضُواْ عَنْهُ} إذ لا شيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال {ذلك} إشارة إلى نيل رضوانه جل شأنه كما اختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في «البحر» وإليه يشير ما روي عن الحسن {الفوز العظيم} الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {لهم جنات} مبيّنة لجملة: {ينفع} باعتبار أنّها أكمل أحوال نفع الصدق.
وجملة {تجري من تحتها الأنهار} صفة لـ{جنَّات} و{خالدين} حال.
وكذلك جملة {رضي الله عنهم ورضوا عنه}.
ومعنى: {رضوا عنه} المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنّة ورضوانه.
وأصل الرضا أنّه ضدّ الغضب، فهو المحبّة وأثرها من الإكرام والإحسان.
فرضي الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبّته في قوله: {يحبّهم}.
ورضي الخلق عن الله هو محبّته وحصول ما أمَّلوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلّع.
واسم الإشارة في قوله: {ذلك} لتعظيم المشار إليه، وهو الجنّات والرضوان. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {رّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة، والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبدًا، ورضوان الله عليهم.
والفوز: الظفر بالمطلوب على أتمّ الأحوال. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}.
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} قال: يقول هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} قال: هذا فصل بين كلام عيسى وهذا يوم القيامة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: متكلمان تكلما يوم القيامة. نبي الله عيسى، وإبليس عدو الله، فأما إبليس فيقول: {إن الله وعدكم وعد الحق} [إبراهيم: 42] إلى قوله: {إلا أن دعوتكم فاستجبتم} لي وصدق عدو الله يومئذ، وكان في الدنيا كاذبا، وأما عيسى فما قص الله عليكم في قوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي} [المائدة: 116] إلى آخر الآية: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وكان صادقًا في الحياة الدنيا وبعد الموت. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قرأ الجمهور {يومُ} بالرفع تنوين، ونافع بالنصب من غير تنوين واختاره أبو عبيدة ونقل الزمخشري عن الأعمش {يومًا} بنصبه منونًا، وابن عطية عن الحسن بن عياش الشامي: {يوم} برفعه منونًا، فهذه أربع قراءات.
فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر، والجملةُ في محل نصب بالقول.
وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه، أحدها: أنَّ {هذا} مبتدأ، و{يوم} خبره كالقراءة الأولى، وإنما بُنِي الظرفُ لإضافته إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماضٍ، وعليه قولُ النابغة: [الطويل]
عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشِيبَ على الصِّبَا ** فَقُلْتُ: ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازعُ

وخَرَّجوا هذه القرءاة على أن {يوم} منصوبٌ على الظرف، وهو متعلق في الحقيقة بخبر المبتدأ أي: هذا واقعٌ أو يقع في يوم ينفع، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضًا في المعنى.
ومنهم من خرَّجه على أنَّ {هذا} منصوبٌ بـ {قال}، وأشير به إلى المصدر فنصبه على المصدر، وقيل: بل أشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ: هل هو منصوبٌ نصب المفعول به أو نصبَ المصادر؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلامًا نحو: «قلت شعرًا وخطبة» جَرَى فيه هذا الخلاف، وعلى كلِّ تقدير فـ«يوم» منصوبٌ على الظرف بـ «قال» أي: قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين، و«ينفع» في محلِّ خفضٍ بالإضافة، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل وأنه أحد ثلاثةِ أشياء.
وأمَّا قراءة التنوين فرفعه على الخبريةِ كقراءة الجماعة، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لما قبلها، والعائدُ محذوفٌ، وهي نظيرُ قوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، فيكونُ محلُّ هذه الجملة إما رفعًا أو نصبًا.
قوله: {صِدْقُهم} مرفوع بالفاعلية، وهذه قراءة العامة، وقُرِئ شاذًا بنصبه وفيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المفعول من أجله أي: ينفعهم لأجلِ صدقهم، ذكر ذلك أبو البقاء، وتبعه أبو حيان وهذا لا يجوزُ لأنه فات شرطٌ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ النفع غيرُ فاعل الصدقِ، وليس لقائلٍ أن يقول: «يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل: الذين يَصْدُقون لأَجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل» لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه، وللقولِ فيه مجال.
الثاني: على إسقاط حرف الجر أي: بصدقهم، وهذا فيه ما عرف من أن حذف الحرف لا يطَّرد.
الثالث: أنه منصوب على المفعول به، والناصب له اسم الفاعل في {الصادقين} أي: الذين صدقوا صدقهم، مبالغةً نحو: «صدقْت القتال» كأنك وعدتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له، والعامل فيه اسم الفاعل قبله.
الرابع: أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل: الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول: «صَدَق الصدقَ»، وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ «ينفع» ضمير يعود على الله تعالى. اهـ.